عبرتُ لأجلكِ الحرب كلّها | شعر

أطفال غزّيّون نازحون ينتظرون حصولهم على طعام، دير البلح | مجدي فتحي

 

عبرتُ لأجلكِ الحرب كلّها

جئتكِ مشتملًا بغبارٍ مهيب

يطفئ الألوان، يخمدها

ويحيل الحياة رماديّةً

من أوّل البحر حتّى آخر الشجرة

يجعل الريح مرئيّةً

تتشكّل فيها كالتماثيل أرواح الناس

بينما تغادر صارخةً نحو وجهاتها السرمديّة

 

جئتُ

ينقصني القليل من العمر

فلا تحزني

أنتِ وقتي إذ لم يبقَ لي وقتٌ

ويقظتي إذ يدعوني الموت إلى النوم

جئتُ أحبّكِ حبًّا كاملًا

تنقصني فيه قطعٌ شتّى من جسدي

 

صوت قذيفةٍ مزّقني

أشلائي في المكان مبعثرةٌ

كآياتٍ نسختْها قنبلة

سقطتْ مِنْ علوّها في قلب سورة الإنسان

فرّقني صوت القذيفة قبل سقوطها

الصوت وحده، أتصدّقين؟

فرّقني تمامًا

ثمّ كان الانفجار تحصيلًا

إضافةً ضوئيّةً تجعل العرض حماسيًّا

يُشبع جنون جنود جهنّم

ويُطمئن الرجل الأبيض

أنّه ما زال أبيضَ بما يكفي

ليقوى على بقر بطن الحبلى، والارتواء من دم جنينها

 

جئتُ أحبّكِ مشتملًا بالنقص، مكتملًا به

لكنّي عبرتُ لأجلكِ الحرب كلّها، وجئتُ لكي أحبّكِ

هل أحبَّكِ قبل هذا اليوم مَنْ كَدَّ في لمِّ أشلائه عن غصون البطم؟

عن وسادة طفلةٍ تشكو ألمًا في ظهرها ونزيفًا في رأس دميتها

من فوق مئذنة المسجد البحريّ الّذي تدخله العاصفة فتخرج هادئةً كقلبٍ سليم

والنار فتبرد، حتّى كأنّها ضوءٌ غير مثلوب

المسجد الّذي دخله أولاد اللاجئين فصاروا قرابين لشاؤول

ودخلتْه مجنزرات الحديد فصارت مثلّثاتٍ حمر

المسجد المهدوم فوق رأس ملائكة الثواب

دخله رجلٌ وحيدٌ قاتل العتمة بعينين مغمضتين

فصار إله الدفاع عن النور

 

هل أحبَّكِ قبل هذا اليوم، رجلٌ قضى ساعتين

في إقناع هرّةٍ صغيرةٍ احترقتْ أمّها بالفسفور الأبيض

أن ترخي أنيابها عن قلبه؟

هل أحبّكِ رجلٌ استعار سبّابةً من شهيدةٍ

لأنّها تلزمه إن احتاج دوس الزناد،

كتابة القصائد،

تهديد الأشياء،

فقأ عين الظلم،

مسح دموعك

حين تبكين وحين لا تبكين

 

كيف وصلتُ؟

يا لها من رحلةٍ محفوفةٍ بالخطر

أتعلمين أنّني متّ مرّتين بعد الموت الأوّل

إحداهما برصاصة قنّاصٍ دخلتْ في قلبي

ولمّا خرجتْ كانتْ في قلب البحر

كنتُ رأيتُ القنّاص

وفتحتُ له صدري، أشرتُ له أنّني ميّتٌ

لكنّه ربّما قال لنفسه ما المشكلة إن مات مرّةً ثانية!

والميتة الثالثة كانت من القهر على احتراق حديقةٍ

غنّيتِ لي بها أغنيةً أحبّها وتحبّني

كنتِ ترفعين صوتكِ في مقطعٍ منها

فأرقص كنافورة، وأقول سرًّا أحبّك مئة مرّة

وأعلنها لك مرّةً أو مرّتين

 

جعتُ كثيرًا في الطريق إليك

لم أجدْ غير رغيفٍ يبس فوقه دمٌ ناشفٌ

فأكلتُ ما استطعتُ منه، ثمّ حفرتُ قبرًا لبقايا الرغيف

ودفنتُ القطع الّتي شربتِ الدم

يُدْفَنُ الدم حين يكون عليه أن يصبح غضبًا أو لعنة

يُدْفَنُ الخبز المقتول حتّى يقوم قيامة يسوع

 

كيف وصلتُ؟

وجدتُ قاتلًا يشمّ ملابس مراهقةٍ لم يبق من أهلها غير ملابسهم

ثمّ رمى طلقتين على قميصٍ ارتدتْه مرّةً لموعد حبّ

نزف القميص وماتت مَنْ لا ترتديه

 

كيف وصلتُ؟

صادفتُ أناسًا يرفعون مكانًا آمنًا

عن أجساد مَنْ ماتوا داخله مروعّين

 

كيف وصلتُ؟

التقيتُ بولدٍ يجمع الماء من حفرةٍ صنعها القصف

يغرفه بكفّه الصغيرة

يسرق منه رشفةً أو رشفتين

ثمّ يكمل جمع الماء في الوعاء، نصف نهارٍ حتّى امتلأ

وفي لحظة امتلائه

أطلق القنّاص رصاصةً على الإناء

ظلّ ينتظره حتّى جمع كلّ الماء ثمّ قتل له ماءه

انسكب الماء كما تنسكب المفاهيم والمقدّسات في موقع المذبحة

احتجّ الولد

فسكب له القنّاص دمه في الحفرة

 

 كيف وصلتُ؟

وجدتُ رجالًا ينسلّون من الأجداث

يلاحقون مَنْ قتلهم

وحين ينجحون، يبزغ من أجسادهم ضوءٌ غريبٌ

ثمّ يقفزون في الفضاء طائرين ويختفون

 

كيف وصلتُ؟

تمامًا كما يصل عاشقٌ إلى حبيبته

في يومٍ عاديّ، في مكانٍ عاديّ

جئتُكِ هادئًا، كأنّ الخوف جفّ

وصافيًا وسعيدًا بأنّني أحبّكِ

وأنّني وصلتُ

لستِ وحدكِ مَنْ أدهشها وصولي

لا تقلقي

تحدّثتُ مع مطرٍ باردٍ

فما قال لي غير "أما متَّ أنت؟"

صافحتُ بريق نجمةٍ

فأفزعه أنّني لم أمتْ

طرقتُ باب ربّةٍ

فأدهشها أنّني لم أمتْ

حتّى الرصيف المقابل لرصيفنا الّذي مات

لم يصدّق أنّني حيّ

أنا حيٌّ ولا أعرف كيف

ولا كيف وصلتُ

ولكنّي

جئتُ لكي أحبّكِ

قبل أن أموت

 كما ينبغي برجلٍ لملم ما تيسّر من أشلاء جسمه

وتلاها عليكِ بصوتٍ خاشعٍ

ولم يجدْ روحه

 

أتبحثين معي عن روحي؟

لعلّي إن وجدناها

أهنأ بالموت

أو أتعسُ بالنجاة

 


 

أحمد يهوى

 

 

كاتب وصانع محتوًى مقيم في رام الله، يعمل في الكتابة للأعمال البصريّة والوثائقيّة، منها «جزيرة فاضل» وسلسلة «طريق الآلام». له مجموعة شعريّة عنوانها «يرتدّ إليه قلبه»، حائزة على جائزة من «بيت الشعر المغربيّ» و«دار النهضة العربيّة».